القائمة الرئيسية

الصفحات

خطيب المسجد الحرام: الصديق الثقة هو العين وهو الأذن وهو القلب يرُى به الغائب بصورة الحاضر

 


 حث فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام، عضو هئية كبار العلماء معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد في خطبة الجمعة اليوم، على الصدق والأخلاق مع الأصدقاء قائلا في الخطبة الأولى: الصداقة ابتهاج في القلب ، ولذة في الروح ، وسخاء في النفس ، وعون على تخفيف أعباء الحياة .
إن مادية هذا العصر قضت على كثير من الروابط الوجدانية ، والمشتركات العاطفية ، فأصبح الناس وكأنهم قطع آلات تعمل للمصالح المادية ، وتنتج بوقود النفعية ، لقد جعلت هذه المادية المنافع ، والمصالح ، هي معايير العلاقات ، فتراهم يقولون : لا صداقاتٍ دائمةً ، ولا عداواتٍ دائمة ، ولكن مصالح دائمة ، وهذا – رعاكم الله - هدم لركن عظيم من أركان الأخلاق .
​في هذه المادية ضعفت الروابط الاجتماعية الجميلة ، بل ضعفت رابطة الدين ، ورابطة القرابة ، ورابطة الوطن ، وصارت المصالح ، والمكاسب ، وتعظيم المنافع هي المعيار ، وهي المعتبر .
​تحولت العلاقات إلى : زميل في العمل ، وعضو في الجمعية ، وشريك في المؤسسة ، ومساهم في الشركة ، وهكذا في علاقات مادية بحتة .
​وهذا له تأثيره الكبير في فقدان القيم الروحية ، والسكن النفسي ، والتبادل الوجداني .
​وقال معاليه: معاشر الإخوة ومن أجل مزيد من البيان ، والإيضاح هذا حديث عن الصداقة والأصدقاء في علاقاتهم ، وحقوقهم ، وصفاتهم ، ليتبين حال الفريقين ، ويتجلى منهج المسلكين .
​الصداقة – عباد الله – هي فطرة الاستئناس التي فطر الله الناس عليها.
الصداقة : معنى كريم في وجدان الأكرمين ، تناوله الحكماء بالوصف والتحليل ، وهي عنوان سلوك الإنسان ، ومقياس شخصيته.
حتى قيل : إذا أردت أن تعرف همة الإنسان ، ورجاحة عقله ، وبعد نظره ، وسعة أفقه ، فانظر من يصاحب ، وتأمل فيمن يصادق .
الصداقة سامية المكانة ، غزيرة الفائدة ، تجمع بين العقل ، والدين ، والصلاح ، والكرم ، وحسن الخلق .
وذكر فضيلته بأن الصداقة عطاء وبذل ، وإقالة للعثرات ، وصفح عن الزلات، وعروة وثقى ، تقوم على تماثل الطباع ، وتُشْعِر بالاستقرار في الفرد والجماعة .
الصداقة هي جسر المحبة بين القلوب ، والعطر الفواح الذي ينتشر في الأرجاء ، فيملأ القلبَ بالفرح ، والروحَ بالمحبة .
الصداقة إحدى مفاتيح السعادة ، فهي لا تقدر بثمن، الصداقة اختيار ، وانتخاب ، واصطفاء ، لا تترك للظروف ، وأساسها الحب ، وعمادها الاحترام ، وحافظها طيب النوايا، الصديق شريك في الحياة ، شريك في الأفراح ، وفي الأتراح ، وفي القوة والضعف ، وفي الرخاء والشدة ، وقد قيل : الصديق وقت الضيق ، والصديق قبل الطريق .
الأصدقاء : أوطان واسعة ، وأحضان دافئة .
الصداقة الجميلة بما تحمله من علاقات متينة ، وذكريات لطيفة من علاقات الدين ، والقربى ، والجيرة ، والزمالة ، في اختيار محضن يمليه الميل القلبي ، والود المشترك ، وخصال البر لا تحيا إلا بالتهذيب .
وعندما سئل أحد الحكماء : هل الصديق أحب إليك أم القريب؟ فكان جوابه : القريب يجب أن يكون صديقاً .
وذكر بن حميد أنه يجتمع في الصديق صدق القلب ، وصدق اللسان ، وصدق الموقف ، وصدق المشاعر ، وصدق النصح .
صديق كريم ، إن قَرُبَ منح ، وإن بَعُدَ مدح ، وإن ظُلِم صفح ، و إن ضويق فسح ، ومن ظفر بمثل هذا فقد أفلح .
إخوان الصدق خير مكاسب الدنيا ، زينة في الرخاء ، وعُدَّة في البلاء ، يتطاوعون بلا أمر ، ويتناهون بلا زجر ، لا عَتَبَ يُسوَّدُ به الوجه ، ولا عُذْرَ يُغَضُّ منه الطرف ، فهو رقيق في عتابه ، رفيق في عقابه ، غيرُ فاسق ، ولا منافق .
الصديق يستأنس به ، ويعتمد عليه ، ويستشار في الُملِمِّ ، وينهض في الُمهِمِّ .
يكتم السر ، ويستر العيب ، ويبذل في النوائت ، ويؤثر في الرغائب ، يلتمس الأعذار ، ولا يُلْجِئ إلى الاعتذار ، إذا خدمته صانك ، وإن صحبته زانك ، إذا مددت إليه يدَ الخير مدها ، وإن رأى منك حسنة عدها ، وإن رأى سيئة سدَّها ، إذا سألته أعطاك ، وإن نزلت بك نازلة واساك .
رِدْءٌ عند الحاجة ، ويد عند النائبة ، وأنس من الوحشة ، وزين عند العافية .
الصديق الثقة هو العين ، وهو الأذن ، وهو القلب ، يرُى به الغائب بصورة الحاضر .
وقال بن حميد معاشر المسلمين : إذا كان ذلك كذلك فلا بد من الحرص والتحري في اختيار الصديق فالإنسان محاسب على اختيار الصديق، وإذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الرجال فأحق الناس بالتغاضي عن هفواتهم هم أخوانك الذين عرفت فيهم المودة ، والصدق ، والنصح ، ومن ابتغى صديقا من غير عيب بقي بلا صديق ، ومعاتبة الصديق خير من فقده ، أطع صديقك ، ولِنْ له ، ولا تسمعْ فيه قول حاسد ، وغدا يأتيك نعيه فكيف تبكيه ، وقد جفوته ، وقطعت وصله .
​ولا يطلب في الصداقة المثاليةُ ، فالعبرة في خصال الصحبة الغلبة ، وكل ابن آدم خطاء ، يعتريهم الخلل ، ويدخل عليهم النقص .
معاشر الإخوة : ولا يُصلح العلاقات ، ولا يديمها إلا التغافل ، والصفح ، والتناسي ، وسلامة الصدر ، وصفاء النفس ، والعتاب الرقيق .
وليحذر الصديق أن يحمل في صدره حمية الجاهلية ، فيرى أن لزاما على صديقه أن يصادق من صادق ، ويعاديَ من عادى ، بل عليه أن يدرك أن الناس يختلفون في تقديرهم لمنازل الناس ورتبهم ، وخطأهم ، وصوابهم .
وإذا تحملت من صديقك حر صيفه ، وبرد شتائه ، وجفاف خريفه ، وقِصَر ربيعه ، كانت كل الفصول لك ربيعاً دائما .
وقال معاليه: من ظن أنه يستغني عن الصديق فهو مغرور ، ومن ظن أن تحصيل الصديق أمر هين فقد جانب الصواب ، وإذا كان ذلك كذلك – عباد الله – فينبغي على الصديق أن يكون خفيفا ، فلا يكلف صاحبه ما يشق عليه ، ومن الجفاء في الصداقة التكلف ، والاحتياج إلى المداراة ، والإلجاء إلى الاعتذار ، فلُمْ صديقك سراً ، وأَثْن ِعليه علنا وجهراً ، ويبقى الود ما بقي العتاب .
والمؤمن مرآة أخيه إن رأى فيه ما لا يعجبه سدده وقومه ، وحاطه بحفظه في السر والعلن ، فثقوا في الأصحاب ، واطمئنوا إلى الإخوان ، واحفظوا المجالس ، ولا تسمع عن أخيك ، بل اسمع منه ، وإذا فارقته فاحفظ سره، وما يذكر من تقلب الزمان ، وتلوِّن الأصدقاء ، وعدم الثقة بالإخوان ليس بسديد ، لأن الحديث عن أصدقاء الفضيلة ، وليس أصدقاءَ المصالح ، والمنافع ، وأضرابَهم .
والميزان في ذلك – حفظكم الله - أن المرء ينتفع بصاحبه لكن لا يصاحبه من أجل أن ينتفع به ، فالمصالح المشتركة حق من حقوق الصحبة ، والصداقة ، لكنها ليست سببا لها ، ولا باعثالها ، وصديق الفضيلة يجمع المنفعة ، واللذة جميعاً .
وبعد - حفظكم الله – فالصداقة الحقة لا تًحُلُّ في نفس إلا هذبتها فتورث المحبة ، والتواضع ، وكظم الغيظ .
وحبك لصديقك لفضيلته دليل على سمو خلقك ، ولا يعرف الفضل من الناس إلا ذووه ، وصديق الفضيلة تجد عند لقائه ارتياحا ، وفي مجلسه أنسا ، وأعجز الناس من فرط في طلب الإخوان ، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم. وتحدث بن حميد في خطبته الثانية عن حقوق الصداقة والصديق قائلا الانقباض عن الناس يكسب العداوة ، وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء ، والكذاب ليس حرياً أن يكون أخا ولا صديقا .
وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما مثل الجليس الصالح ، والجليس السوء ، كحامل المسك ، ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحذيك - أي يعطيك من غير مقابل - ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة .
قال النوري رحمه الله : في هذا الحديث فضيلة مجالسة الصالحين ، وأهل الخير والمعروف ، ومكارم الاخلاق ، والورع والعلم والأدب ، والنهي عن مجالسة أهل الشر ، وأهل البدع ، ومن يغتابُ الناس ، أو يكثرُ فُجْرهُ ، وبطالته ، ونحوُ ذلك من الأعمال المذمومة .
ويقول جعفر الصادق رحمه الله : لا تصحب الكذاب ، فإنك منه على غرور ، ولا تصحب الأحمق يريد أن ينفعك فيضرك ، ولا تصحب البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ، ولا تصحب الجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدائد ، ولا تصحب الفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل ، قيل : وما أقل ؟ قال : الطمع بها ثم لا ينالها .
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واعلموا أن أصدقاء السوء يدلون على الفساد ، ويسيرون في طريق الهلاك ، وليس أجلب لسبيل الفساد من قرناء السوء ، والمرء ليس بحاجة إلى صداقة تجلب العداوة .

تعليقات