قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ د. أحمد بن علي الحذيفي -في خطبة الجمعة-: إنكم تتقلبون في خصب الديار بعد جدبها، وبفيض السماء بعد قحطها، فكأن مبسم السماء قد افتر بعد عبوس، تعرف في وجهها نظرة النعيم بعد البؤس، وكأن ظهر الأرض قد بدل لبوسا بلبوس وكأنك تسمع للكائنات سرورا به صوتا غير صوتها، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها؟، الغيث ينفخ في الأرض روح الحياة بإذن الله، فتسري في أوصالها سريان الماء في الأغصان، ويدب فيها دبيب الروح في الأبدان، فهو روح تبعث الحياة في كل شيء، "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
وتابع: تبتهج الأرض بنزوله وتستقبله استقبال المشوق للمحبوب، إنه نعمة عظمى تتجلى فيها رحمة الله بعباد وفضله على مخلوقاته، يقول تقدس اسمه: "أفرأيتم الماء الذي تشربون، أانتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون"، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"،
وقال: وهو منة جلى تستنطق لسان الحمد والثناء للخالق المنعم القادر من المخلوق العاجز القاصر، فهو وحده المستحق لكمال الحمد والشكر والثناء، وهو الحقيق بقول القائل: إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نثني وفوق الذي نثني، وإن جرت الألفاظ منا بمدحة لغيرك ممدوحا فأنت الذي نعني، فالعبد مطوق بقيود نعمه، غارق في بحارها متجلل بأثوابها ولكن حسبه إذا تحركت بالحمد شفتاه أو جرى به قلمه أو تردد في القلب ذكره أن يقر بالعجز عن حق شكر الله وحمده، فاللهم لك الحمد، عدد ما سح الغيث وهمع، وعدد ما تلألأ البرق ولمع حمدا نبلغ به رضوانك ونشكر به إحسانك.
وأضاف: إن نزول الغيث من أعظم الدلائل على ربوبية الله وقدرته ووحدانيته، وانفراده بالخلق والتدبير دلالة تستلزم توحيده بالعبادة والألوهية، قال جل شأنه: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون"، فالمنفرد بالربوبية هو المستحق وحده للعبادة، فسبحان من هذا خلقه عما يصفون، وتعالى من هذا تدبيره عما يشركون،
وتابع: إن للغيث بعد قحوط السماء وقنوط العباد، وبعد اقشعرار البلاد واغبرارها، وتبدل الحال من سنة إلى رخاء، ومن جدب إلى خصب، لعبرة ظاهرة، وعظة باهرة لمن ساور اليأس نفسه أو خالج الحزن قلبه أو خامر الغم فؤاده من ضيق نزل أو شدة ألمت بأن يرفع شكايته لربه وينزل به حاجته موقنا أنه جل شأنه قدير على أن يبدل حاله من شدة إلى فرج، ومن عسر إلى يسر ومن ضيق إلى سعة، في ساعة من نهار، "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد"،
وأضاف: ألا وإن المؤمن يتذكر بنزول الغيث وتبدل الأحوال من الخصب إلى الجدب أن هذه الدنيا لا تدوم شدائدها ولا تمتد مسراتها فتعظم رغبته في دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبتئس بما قد يعرض ولا يعظم في صدره ما قد ينزل به، وقد ذكرنا ربنا في محكم تنزيله بذلك، فقال جل وتقدس: "انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون".
تعليقات
إرسال تعليق